لعنتُك لهذا اليوم

ربما لم تكن صدفةً أن يكون من مواليد برج الجدي فقد كان وجهه شبيهاً بوجه الجدي إلى حدٍ بعيد: عينان شاخصتان على الدوام ووجه مستطيل الشكل وشفاهٌ عريضة، ولم تكن تنقصه غير القرون، وقد كان منذ صغره يعشق الماشية فيرتاد البراري وحيداً كي يُمتّع ناظريه بمرأى القطعان، ومع أنَّ الكل سخروا منه لأنه ظلَّ يبكي ثلاثة أيام بعد أن مات حملهُ الصغير الوديع إلا أنه لم يعبأ بأحد وظلَّ وفياً لحزنه، وكذلك ظلّ إلى الآن محتفظاً بحبل صغير كان يربط به حمله الوديع قبل أن يموت.

الآن وهو يجلس وحيداً في غرفته يتذكر تلك الأيام بحسرة وخيبة، ولا يكفُّ عن النظر إلى صورة الجدي المعلّقة على حائط الغرفة والتي قد تعرضه لسخرية شبيهة بالسخرية التي تعرض لها يوم أن حزن على حمله الذي مات وهو طفل لكنَّ وحدته القاتلة جنّبته مغبّة السخرية فمنذ زمنٍ بعيد لم يزره أحدٌ في البيت ربما لأنّه لا يعرف أحداً أو لا يعرفه أحدٌ، ولهذا كان يبتسم ابتسامة عريضة وهو يقرأ في الجريدة عن صفات مولود برج الجدي: ” ليس مولودُ برج الجدي ممن يحبون التجمهر وغالباً ما يفضّلون الانفراد والعزلة ” ويضحك بصوتٍ عالٍ عندما يعرف أنَّ من سيئات مواليد برجه التشاؤم والميل للكآبة وحب الانفراد!!

كان مهووساً إلى حد كبير بشراء الصحف والمجلات التي تهتم بالأبراج مع أنّه في قرارة نفسه كان يعدّ الأمر مثيراً للسخرية ولا يمكن تصديقه لكنّه كان يريد أن يقهر الفراغ الذي يحدّق فيه ويسكنه، كان يريد أن يشعر بلذة وهو يجد نفسه مركزاً لهذا الكون أو إلهاً متقاعداً يجلس في غرفته ويستكشف المجهول ويهتك أسرار الغيب مع أنَّ شيئاً مما يقوله برجه لم يحدث له وفي أحيانٍ كثيرة كان يحدث العكس فقبل عشرين سنة وفي اليوم الذي أخبره فيه برجه أنَّ علاقته ستتحسن مع الشريك بعد الخلاف الذي استجدَّ مؤخراً خسر الفتاة التي كان يحبها ويوم أن طلب منه طالعه أن يمارس رياضة المشي لأنها مفيدة لصحته تعرّض لحادث سير مكث على إثره تسعة أيام في المشفى!!؛ ومع أنّه كان يتذكر تلك الأيام بمرارة وحزن إلا أنّه هذه المرة أحس بحجم المؤامرة الكونية وبسخرية القدر الحادة فما كان منه إلا أن مزّق الجرائد والمجلات المكدّسة في غرفته وغادر منزله متوجّهاً إلى أحد الأرياف وهناك جلس في حقلٍ واسع وأخذ يبكي ويلتهم العشب بشراهة وهو يصيح: ماااااااء.. مااااااء.. ماااااااء!!؛ ولحسن حظّه فإنَّ أحداً من الناس لم يره، ولأنَّ مولود برج الجدي انفعالي إلى درجة لا توصف ومتقلّب المزاج فقد عاد إلى صفائه الأول وقرّر أن يظلّ على عادته الأولى، فغادر الحقل وعاد إلى البيت وهو يشعر بنشاط وحيوية غير معهوديْن.

وحين وصل إلى البيت سارع إلى إعداد فنجانٍ من القهوة وجلس على الأريكة بعد أن أشعل سيجارته، ثم أمسك بجريدة اليوم ليقرأ ما يقوله برج الجدي لهذا اليوم وعندما قرأ ما كُتب على الصفحة أخذ نفساً عميقاً ينمُّ عن ارتياح وشعورٍ بالغ بالرضا وارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه، فقام عن الأريكة بعد أن أنهى فنجان قهوته وسيجارته وذهب إلى خزانة ملابسه وتناول الحبل الذي كان يربط به حَمْله الوديع وعلّقه في السقف، ثم وضع كرسياً وصعد عليه ولف الحبل حول عنقه وأزاح الكرسيّ ليفارق الحياة لكن الابتسامة لم تفارق وجهه.

في اليوم التالي وبعد أن اكتشف أمره حضر رجال الشرطة والغريب أنّهم لم يجدوا شيئاً حول الجثة سوى جريدة مفتوحة على صفحة الأبراج ومما جاء فيها: ” برج الجدي: تشعر بالراحة التامة فيما يخصُّ ذاتك.. أكمل خططك وابدأ في العمل بطريقة مركزة فما كان يبدو غير متاحٍ أصبح الآن في متناول يدك ” !!

إغلاق